Wednesday, January 9, 2019

بعثة أبولو 8 أثّرت على نظرتنا إلى كوكب الأرض ومكاننا في الكون

ويقول بورمان: "لا أظن أن جميع الكتب التي درستها في حياتي قد تؤهلني للعيش على سطح القمر بطبيعته القاسية. فإن سطح القمر وعر إلى حد يستعصي على التصديق. رأيت سطحه مليئا بالحفر وفوهات البراكين وبقايا حممها. ولكنه كان مشهدا مثيرا لعالم مختلف".
ولم يندهش الطاقم من منظر القمر فحسب، بل بعد مرور 75 ساعة و48 دقيقة من انطلاق البعثة، لمح أندراس من القمر زرقة الأرض وهي ترتفع فوق الأفق، وفتش في كل مكان عن فيلم ملون لالتقاط المشهد الرائع.
يقول بورمان: "كان التناقض بين القمر الكئيب وكوكب الأرض الأزرق البديع آخاذا، ولاحظنا أن كوكب الأرض هو الجرم الوحيد الملون في الكون بأكمله. يمكنك أن ترى الغيوم البيضاء والقارات بلونها الوردي الضارب إلى البني. كم نحن محظوظون بالعيش على ظهر هذا الكوكب".
وفجأة تحولت البعثة من اختبار خطير لبراعة البشر التكنولوجية وشجاعة رواد الفضاء، إلى تجربة روحانية أثارت مشاعر طاقم البعثة. وبينما لم تُنشر صورة ظهور الأرض إلا بعد عودة طاقم أبولو 8 إلى الأرض، فإن الطاقم أعد هدية أخرى لسكان كوكب الأرض احتفالا بعيد الميلاد المجيد في عام 1968.
تقول موير هارموني: "قبل انطلاق البعثة، قال مسؤول العلاقات العامة بوكالة ناسا لبورمان إنهم يتوقعون أن يتابع البث التليفزيوني من مدار القمر عشية عيد الميلاد نحو مليار شخص، ما يعادل ربع سكان العالم، وهذا يفوق عدد مستمعي أي صوت بشري آخر على مر التاريخ. وأخبره أن يعدّ كلمة مناسبة لإلقائها أمام جمهور المتابعين."
ويقول بورمان: "هذه لحظة من اللحظات الفارقة في تاريخ أي بلد ينعم بالديمقراطية. تخيل لو كان السوفييت مكاننا لكنا تحدثنا عن فضل لينين وستالين، ولكن في المقابل قيل لنا أن نختار كلمة مناسبة وحسب".
إلا أن إعداد هذه "الكلمة المناسبة" لم يكن بالأمر الهين. ويقول بورمان: "حاول ثلاثتنا بمساعدة زوجاتنا التفكير في أي شيء مناسب لنلقيه على مسامع المتابعين، ولم نتوصل لشيء".
ولجأ بورمان إلى أحد أصدقائه، الذي استعان بدوره بمراسل حربي متقاعد يُدعى جو لايتون، ويقول بورمان: "على حد علمي، سهر لايتون الليل بأكمله وهو يكتب كلمات على الورق ثم لا يلبث أن يجعّدها ويلقيها على الأرض، وعندما رأته زوجته، التي شاركت سابقا في صفوف المقاومة الفرنسية في الحرب العالمية الثانية، اقترحت عليه أن يبدأ من البداية".
وعند بدء التصوير، أخذت المركبة الفضائية تقترب من شروق الشمس على القمر عشية عيد الميلاد (بتوقيت الولايات المتحدة الأمريكية)، وشرع طاقم البعثة في قراءة سفر التكوين بالتناوب، واستهل أندرز بقراءة: "في البدء..."، واختتم بورمان قائلا: "نتمنى لكم ليلة سعيدة وحظا سعيدا وعيدا سعيدا، وبارككم الله جميعا، جميع البشر على كوكب الأرض الرائع".
ويقول بورمان: "كنا على قناعة حينها أن هذه الكلمة هي الأنسب لهذا المناسبة للتعبير عن الرهبة التي تملكتني، وحدي على الأقل، من مدى ضآلة حجمنا جميعا بالنسبة إلى الكون. فمن المستحيل أن يكون هذا الكون بضخامته ودقة تنظيمة قد خُلق من تلقاء نفسه من دون تدخل إلهي".
غير أن البعثة لم تنته بعد. ففي يوم عيد الميلاد شغّل بورمان المحرك مرة أخرى ليغادر مدار القمر. ويقول: "نفذنا عملية إشعال المحرك لدفع المركبة إلى المدار الأرضي عندما كنا على الجانب البعيد من القمر، فلو أخفقت عملية الإطلاق، لكنا الآن لا نزال ندور حول القمر".
ولم يفت مركز المراقبة والتحكم الأرضي في البعثة أن يرسل هدايا عيد الميلاد للطاقم على متن المركبة، والتي كانت عبارة عن وجبة من الديك الرومي المغطى بالصلصة البنية الكثيفة، وملفوفة في ورق هدايا لامع غير قابل للاشتعال.
ويقول بورمان: "وضع دِك سلايتون (رئيس الطاقم)، خلسة وسط أمتعته ثلاث جرعات صغيرة قوية المفعول من مشروب البراندي ولكننا لم نشربها، فقد خشيت أن أتحمل تبعات أي خطأ يقع دون أن ندري".
وفي يوم 27 ديسمبر/ كانون الأول، عاد الطاقم إلى الأرض، إذ هبطت المركبة بالقرب من الهدف في المحيط الهادئ. وقد كانت نهاية مثالية لبعثة ناجحة، أثبتت أن الرحلات الفضائية إلى القمر ستؤتي ثمارها.
وتقول موير هارموني: "لم تحقق بعثة أبولو 8 إنجازا علميا وهندسيا تاريخيا فحسب، إنما أسهمت أيضا في توسيع آفاق التجارب البشرية، وأثّرت على نظرتنا للأرض ومكان البشر في الكون".
أما الكولونيل بورمان، الذي لا يزال يحتفظ بروح المقاتل في الحرب الباردة رغم بلوغه 90 عاما، فيرى أن الإنجاز الحقيقي لآخر البعثات التي شارك فيها هو تقدُم أمريكا على غريمها الاتحاد السوفيتي في السباق نحو القمر.
ويقول بورمان: "لا أخفيك سرا أنني لم أكترث لإرث بعثة أبولو 8. فبعد أن نجحت بعثة أبولو 11 (في تنفيذ أول هبوط بشري على سطح القمر)، لم أعد أهتم ببرنامج أبولو، إذ شاركت من البداية في البرنامج لأقاتل في إحدى معارك الحرب الباردة، وقد انتصرنا".

No comments:

Post a Comment